روايات شيقهرواية وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الثالث والثلاثون

في اليوم التالي
كانت إيثار بمفردها في الفيلا مع الصغيرة ريفان ترعاها كالعادة وتلهو معها..
هي تعلقت بها كثيراً، وأصبح وقتها المفضل هو ذاك الذي تقضيه معها..
أرادت أن تستغل فرصة غياب روان لمفاتحة مالك في مسألة ارتباط أخيها بها..
هي تعلم أنه سيعارض هذا الموضوع وبشدة، ففضلت أن تتحدث معه على انفراد حتى تتجنب توتر الأجواء معه ومع روان إن أصر على رفضه..

وبالفعل حدث ما تمنت، وعاد مالك مبكراً من عمله لينهي بعض الملفات العالقة قبل أن ينطلق مجدداً للقاء عمل بالخارج..
ألقى التحية عليها وهو يتحرك بعجالة للداخل دون أن يقبل ابنته، فلا وقت ليضيعه، وهو أمامه الكثير لينجزه في وقت قليل..
نظرت هي له بإستغراب، وردت عليه برقة:
وعليكم السلام.

حملت الصغيرة، وسارت خلفه بخطوات سريعة محاولة اللحاق به، ولكنه كان الأسرع في التحرك لذلك اضطرت أن تنادي عليه بنبرة مرتفعة نسبياً:
مالك، آآ..
تداركت خطئها سريعاً وهتفت بنزق:
مالك بيه
انتبه لترديدها اسمه دون أي ألقاب في البداية، والتفت برأسه نحوها ليرمقها بنظرات مطولة..
اقتربت منه بخطوات حذرة، وحافظت على ثباتها الانفعالي رغم شعورها بسخونتة وجنتيها، وهمست قائلة بتوتر:
ممكن أتكلم معاك في حاجة.

رد عليها بجمود وهو يزفر في تعب:
مش وقته، أنا عندي شغل كتير وآ..
قاطعته قائلة بإصرار:
أنا مش هاعطلك، هما بس 5 دقايق مش أكتر
تنهد بعمق وهو يرد بإقتضاب:
خير
ابتسمت له بخجل وهي تقول:
ينفع نتكلم في المكتب جوا
حدق في ساعته، ثم أجابها بضيق:
ماشي، اتفضلي
تحرك نحو مكتبه، وسارت هي خلفه بثبات..
لم تنكر حالة التوتر التي تعتريها وهي في حضرته، لكنها لن تظهر هذا أمامه، هي اعتادت على تخبئة مشاعرها، وستحافظ على ذلك..

جلس على مقعده، ونظر لها بتفرس وهو يتساءل بجدية:
خير؟ كنتي عاوزاني في ايه
أجلست الصغيرة على حجرها، وداعبت أصابعها برقة وهي تقول بتوتر:
أنا، انا كنت عاوزة أفاتحك في موضوع روان وآآ، وعمرو
تصلبت تقاسيم وجهه عقب جملتها الأخيرة، وحل الوجوم عليه، وأظلمت عيناه بشدة، وقست نظراته..
تابعت هي قائلة بحذر رغم تذبذب نبرتها:
هما، هما الاتنين يعني في زي آآ، مشاعر بينهم، وآآ، ويمكن يكون في آآ..

هب واقفاً من مكانه، وصاح بها بغلظة اخافتها وهو يضرب بعنف بقبضته على سطح مكتبه:
الكلام ده مرفوض، أنا مش هاسمح لأختي ترتبط بواحد زي أخوكي
شعرت بالإهانة والإساءة إلى شخص أخيها من كلماته القاسية، ومع ذلك ابتلعتها منه، ودافعت عنه قائلة:
أخويا معملش حاجة غلط، هو عاوز يتقدملها ويخطبها
صرخ فيها بإنفعال وهو يشيح بيده:
مش هايحصل، أنا ممكن أوافق على أي حد في الدنيا إلا أخوكي، هو أنا نسيت اللي عمله فيا ومعايا!

نظرت له بخوف، ونهضت هي الأخرى من على الأريكة وأحاطت الصغيرة بذراعيها لتحميها من تهوره، وأكملت بتوجس:
بس إنت كده بتظلم أختك، بتاخدها بذنب غيرها!
احتدت نظراته، وصاح وهو يكز على أسنانه بشراسة:
انتي بالذات ماتتكلميش عن الظلم، نسيتي اللي عملتيه فيا
ابتلعت ريقها بتخوف، فهي تعرف جيداً ما قام به أخيها مسبقاً..
قست نبرة مالك وهو يتابع بصراخ:
مش معنى إني بأعاملك كويس أبقى نسيت كدبك وخداعك ليا!

شعرت بإهانته المتعمدة لشخصها وتحقيره من شأنها، فردت مدافعة عن نفسها:
أنا مكدبتش عليك!
لوح بكف يده أمام وجهها مهدداً:
لأ كدبتي، والدليل إنك اتجوزتي غيري عشان أغنى مني!
ارتجفت من ثورته الغاضبة، واحتمت بالصغيرة وهي ترد بنبرة شبه مرتعدة:
محصلش، أنا كنت مجبرة
نظر لها بإزدراء، ثم هتف بتهكم:
أيوه، زي ما انتي مجبرة تشتغلي عندي
أغاظتها اتهاماته الباطلة، فصاحت مدافعة:
انت اللي طلبت إني أكون معاك مش أنا.

نفخ بصوت مسموع، ورمقها بنظرات قوية، وهو يقول بصرامة:
أنا مش عاوز مناهدة كتير في الموضوع ده!
أيقنت إيثار أنه يكن لها ولأخيها الكثير من الكراهية، ولكن ما ذنب أخته أن تعاني مثلها من الحرمان من الحب..
لذلك استجمعت شجاعتها أمامه، وأصرت على رأيها قائلة:
لأ لازم تسمع للأخر
رد عليها بسخط:
انتي مش هاتكوني أدرى مني بمصلحة أختي
أضافت قائلة بنبرة حادة:.

أنا صاحبتها وعارفة مشاعرها، ومش عاوزاها تتحرم من الحاجة اللي بتتمناها!
أغاظته كلماتها، فحذرها بصوت قاتم:
إيثار، إنتي أخر حد يتكلم عن المشاعر!
ردت عليه بعصبية:
إنت متعرفش حاجة عني عشان تحاكمني كأني مجرمة ولا مذنبة
نظر لها بإحتقار، ورد عليها بنبرة ساخطة:
مش محتاج أعرف، أنا شوفتك بعيني!

أشعلت نظراته المهينة لها ثورة بركان غضبها الكامنة بداخلها، هي تحملت الكثير وابتلعت إهانات جمة، لكنها لن تظل صامتة أمام أي إتهامات باطلة، لذا لم تشعر بنفسها وهي تصرخ فيه بجنون:
انت شوفت وصدقت اللي عاوز تعرفه وبس، لكن ماعشتش لحظة واحدة من اللي أنا عشتها!
رد عليها بجمود:
ومش عاوز أعرف!

حاولت السيطرة على انفعالاتها، فهي في النهاية تريد مصلحة أخيها ورفيقتها، فحاولت أن تلعب على وتر المشاعر الصادقة، تلك المشاعر الغير قابلة للتزييف، فأردفت قائلة بنبرة استعطاف:
ماشي ده حقك، بس لو انت كان عندك مشاعر حب حقيقية أكيد هاتحس بأختك وهاتعرف إن هي زي ما قلبك دق قلبها كمان دق وعرف الحب!

لم يتحمل كلماتها، هي تثير بداخله شيء ما، تدفعه للغضب وللجنون، هي أوشكت على كشف تعلقه بها، وهو لن يتحمل ضغطها، هي ليست له، هي ملك لغيره..
قست تعابير وجهه، ونظر لها بشراسة، ثم صاح بصوت هادر:
اطلعي برا!
جفل جسدها من صوته، ونظرت له مشدوهة، فأسرع هو بجذب صغيرته من بين ذراعيها، وتابع بصرامة:
أنا هانهي التعاقد معاكي
ضغطت على شفتيها بقوة، وردت بنبرة شبه منكسرة:
اللي يريحك يا مالك بيه، أنا في النهاية شغالة عندك.

أكمل هو قائلاً بغلظة متعمداً إوجاعها:
بالظبط، إنتي بتشتغلي عندي، وأنا استغنيت عن خدماتك، فاتفضلي يالا من غير مطرود، وفلوسك هاتجيلك على المكتب اللي مشغلك، مش عاوز أشوف وشك هنا تاني ولا في أي مكان
أدمعت عيناها من كلماته القاسية، ها هي النهاية كتبت، وها قد أصدر حكمه عليها دون أن يسمع منها..
رأى عبراتها تترقرق في مقلتيها، فخشي أن يرق قلبه نحوها، فأكمل بشراسة:.

روحي بقى عيطي، واترمي في حضن جوزك وخليه يسترجل و يصرف عليكي بدل ما باعتك عندي وآآ…
لم تستطع تحمل المزيد، هو يتعمد الضغط على جروحها الغائرة، فصرخت فيه بجنون مقاطعة إياه وهي تصم أذنيها بكفيها:
اسكت ماتجبش السيرة دي!
نظر لها بإستغراب، وتابع بتهكم:
خايفة على مشاعره، ماهو لو كان آآ…
قاطعته بصراخ حاد وهي تبكي:
بس!

رأى تبدل حالتها المستكينة الهادئة إلى حالة هياج عصبي، تلك الحالة التي حذره منها الطبيب، فانقبض قلبه بتخوف..
اكتسى وجهها بحمرة هائلة، واحتقنت عيناها الباكيتين، وأكملت بنشيج:
أنا بأكرهه زي ما بأكرهك دلوقتي!
تفاجيء من عبارتها، وتابعها في صمت، فأضافت بصوت متشنج:.

عارف ليه؟ لأنه ظلمني زيك، أيوه ظلمني، أنا حبيتك بجد، وكنت مستعدية أموت عشانك، وعملت ده لحد ما هددوني بيك، فوافقت غصب عني عشان احميك، وهو عرف إزاي يضحك على أخويا ويجبرني على جوازي منه، بس، بس للأسف كان كداب، ومتجوز قبلي ومقالش!
صدم مما قالته، وعجز عن الرد عليها..
أجهشت بالبكاء المرير وهي تستعيد أسوأ لحظاتها..
أغمضت عيناها قهراً، وأطرقت رأسها وهي تكمل بصعوبة:.

كان بيموتني في اليوم مليون مرة وأنا سكت ورضيت بنصيبي، واستحملت ضربه وإهانته واتحرمت من أهلي وبرضوه سكت واستحملت، لحد ما آآ…
توقفت للحظة لتلتقط أنفاسها اللاهثة، وأكملت بنشيج يدمي القلب:.

لحد ما أجهضني وأنا معرفش إني حامل، ضربني وموت ابني لأني كلمت بس أهلي، عارف لما حتة منك تموت وإنت مش دريان، تخيل شعورك عامل ازاي، أهو أنا كنت كده، واتطلقت منه، فماتقولش عندي مشاعر ليه، أنا ماحبتش حد قبلك ولا حبيت حد بعدك، بس إنت ماتستهلش الحب ده، إنت زيك زي غيرك، بتيجي على الضعيف، وبتظلم أوي!
لمعت عيناه بوميض غريب..
وتسارعت دقات قلبه مع فرط الآلم الظاهر في نبرتها…

(( أهكذا كانت حياتك حبيبتي؟ كنتِ تقاسين وأنا أظنك في الغرام تهيمين! ))
حاول أن يرد عليها، فخرج صوته متردداً مصدوماً:
أنا، آآ…
قاطعته بنبرة حادة:
كان نفسي تكون زي ما إنت، بس إنت اتغيرت للأسوأ، بقيت مالك تاني مش عارفاه!
نظر لها عاجزاً عن الرد، فأكملت بأسف:
وأخويا لو غلط فعلى الأقل فهو ندم وتاب، وبيحاول يصلح اللي عمله معايا زمان، وأنا مسمحاه، ما هو أخويا وسندي، معدتش عندي إلا هو!
هتف بإسمها بصعوبة:
ايثار.

توقفت عن البكاء لترفع رأسها للأعلى في كبرياء، وأكملت بما تبقى لها من كرامة:
شكراً يا مالك بيه على الوقت اللي اشتغلت فيه هنا، ويا ريت لو بعت مرتبي للمكتب تخصم منه الأيام اللي كنت غايبة فيها ومقصرة في حق الشغل، أنا مش بأخد حاجة ماتعبتش فيها!
تحركت من أمامه قبل أن يفتح فمه ليناديها..
ركضت وهي تكتم شهقاتها المتحسرة..
رحلت لتبتعد عن الماضي بكل ما فيه..
صدمته فيما حدث لها كان أكبر من قدرته على الإستيعاب..

تسمر في مكانه مذهولاً، هي حقاً مازالت تحبه، وكانت تعاني وبشدة..
هي حبيبته، معذبته، قاتلته..
وهو بتهوره وغضبه الأعمى غفل عن صدق مشاعرها نحوه، وطعنها بقسوة في قلبها، وأضاعها..
لا، لن يحدث، لن يتركها تضيع منه، لن يستسلم، هي كانت له، وستكون…!

عشقها گالسم في وريدي منتشر
وعقلي گالجليد، وقلبي عليها حجر..
إيا عشق تحن علي يوماً، وتحضر..
لي حبيبتي، گسابق عشقنا؟
ألقت حروف كلماتها التي أشبهت الشظايا في آثرها والذي وقع على قلبه گدلو من الماء الساخن شديد الحرارة فأحرقه بلهيب حبه..
انصرفت من أمامه بخطوات راكضة لا تعلم ماهية الطريق، هي تريد الهروب من كل شيء، لم يعد يجمعهما إلا الإهانة والذكريات الموجعة، وهي قد سئمت من هذا كله..

ألا يحث لها أن تفرح، ألا يحق لقلبها الملتاع أن يرتاح قليلاً؟
حاول هو اللحاق بها سريعاً ولكن أعاقته طفلته التي يحملها بين يديه فهدر بصوته بلهجة حادة وهو ينادي على راوية والذعر يعتريه:
راوية، انتي فين، تعالي بسرعة!
ركضت راوية نحوه مسرعة، وهي تنتفض من صوته الأجش ونطقت بصعوبة قائلة:
أيوه، نعم يامالك بيه!
مد لها يده بالطفلة لتلتقطها، ثم ركض على عجالة من أمره بدون أن ينطق حرفاً واحداً..

نظرت له مدهوشة، ومسحت على ظهر الصغيرة بكفها وهي تهدهدها..
خرج گالمجنون وعبر بوابة (الفيلا ) يبحث عنها، ولكنها اختفت، بل الأحرى تلاشت تماماً وكأنها لم تكن هنا أبداً..
نظر يميناً ويساراً وتقدم بخطواته هنا وهناك ولكن لا آثر لها، كور قبضتيه وضرب بهما الحائط وهو يلوم نفسه لوماً شديداً ويوبخها أيضاً على قسوته معها، فهدر بصوته بنبرة متشنجة:.

ليييه، ليه مقالتش من أول يوم! ب، بس انا مكنتش أعرف، يارب كفاية كده أرجوك كفاية!
تنهد بمرارة حارقة، ووضع كفه باتجاه قلبه الذي نبض من أجلها من جديد..
شعر بآلم يجتاحه، بأوجاع ووخزات تقسو عليه لظلمه إياها..

علقت العبرات على أهدابه وترقرقت بصورة واضحة، ولكنها أبت الإنسياب على وجنتيه، لقد خذلها وخذل نفسه وأوهم نفسه بأنها تعيش حياة سعيدة هانئة، ولكنها كانت تعاني أكثر منه ورأت بعينيها ويلات الأيام، هي بالفعل تحطمت ولم يبقى منها شيء…

وكأن القدر يُصر على لقائهما من جديد لحكمة غير معروفة…
كانت تغطي فمها بيدها لتكبح شهقاتها المرتفعة ولكن لم تستطع منع دموعها من الإنهمار، فقد كانت گسيل المطر في ليلة عاصفة شديدة الرياح..
نعم تلك الرياح هي التي حركت جذورها واقتلعتها لتخرج من قوقعة الصمت وتصدمه بالواقع المرير والمخجل الذي عاشته بكل ما فيه من قسوة وظلم..

هي قررت ألا تفصح له عن مكنونات قلبها، أو عن إحساسها الذي لم يخبو يوماً نحوه، وتعهدت لنفسها ألا تسرد له قصتها المؤلمة والمخزية، ولكنه دفعها بظلمه للخروج عن صمتها المرير، وجعله يتعايش مع آلام الندم جراء قسوته معها، لذلك انفجرت فيه معلنة نهاية الظلم، نهاية القمع، وباحت عما جعله يخجل من حاله ومن ظلمه لها..

قادتها قدميها إلى ذلك المكان الخاوي، والذي جمعهما يوماً ما، فوقفت خلف أسواره ولم تقوى على الدخول في مواجهة الأمواج المتلاطمة، جففت الرياح بقايا عبراتها المتجمدة..
وحدقت أمامها بشرود، حيث رأتهما..
أجل، رأت نفسها تتجسد كطيف ملموس أمامها ورأته أيضاً يقترب منها..
ابتسامته المشرقة التي سحرتها يوماً زادت لمعاناً بقربها منه..

كان يضع زهرة بيضاء بداخل حجابها لتكون موازية لعينيها ثم حاوط خصرها بذراعه وهو يلقى على مسامعها أطيب الكلمات وأكثرهم رهفاً..
استندت بكفيها على صدره، واستشعرت نبضاته التي تتسارع في حضرتها..
لم تنطق الشفاه، بل فاضت الأعين بألاف الكلمات..
ابتسمت لذلك المشهد الذي أسعدها وخفف من آلمها وهي تتخليه حقيقة..
ولكن لم يدم الأمر طويلاً، فقد اختفى من أمامها لتبقى ا صورة الرمال المحيطة بتلك البقعة الزرقاء الصافية..

فأنهارت تبكي بشدة وبصوت مسموع للآذان، ثم وضعت كفيها على وجهها لتغطيه بهما وهي تشهق شهقات مرتفعة ممزوجة بصوت البكاء وهتفت بنبرة متقطعة:
آآ، أنا بكرهك، بكرهك يامالك، آآآآه!
خفق قلبها بقوة، وتلاحقت شهقاتها، وفجأة شعرت بكف دافئ وقد أخذ محله على ظهرها فانتفضت بفزع وابتعدت عقب ارتجافة سارت بأطرافها لتنظر إلى من فعل هذا..

شعور قليل بالإرتياح الممزوج بالإطمئنان حينما وجدت تلك السيدة العجوز البشوشة الملامح تبتسم لها بعطف، دنت منها السيدة بخطوات متعرجة ثم مسدت على ذراعها وهي تقول بنبرة دافئة بثت فيها الشعور بالأمان:
اهدي يابنتي، ولا مالك ولا غيره يستاهل تعملي في نفسك كده!

حدقت فيها إيثار بذهول وهي تنزح عبراتها عن وجنتيها، فقد سمعت تلك العجوز عبراتها الشاكية لنفسها دون قصد منها مما جعلها تشعر بالحرج من نفسها، فطأطأت رأسها بحرج وضيق بيّن..
ثم أسبلت عيناها نحوها وهي تتساءل بخفوت وبلهجة واهنة:
هو أنا صوتي كان عالي؟
مسحت السيدة على بشرتها الشاحبة بكفها المجعد وهي تبتسم لها بعذوبة، وأجابتها:
صوت عياطك كان أعلى وأنا محبيتش أشوفك كده، أنتي زي بنتي الله يرحمها!

تفاجئت من عبارة السيدة الأخيرة الصادمة، وهمست مواسية:
الله يرحمها
شعور غريب بالإرتياح تسلل رويداً رويداً إليها، رغم كونها لا تعرفها، لكنها كانت كالبلسم المسكن للآلام..
اد ظهور التجاعيد في وجه تلك العجوز عندما اختفت بسمتها وحل العبوس محل البشاشة، فأطرقت رأسها بحزن شديد ثم هتفت والوميض قد أخذ طريقه لعينيها:.

الله يرحمها، انا عايزة أقولك أننا مش عايشين على طول، امبارح عدا وفات، والنهاردة مش عارفين نهايته إيه، وبكرة ده مش بتاعنا، احنا ضيوف على الأرض يابنتي
أنهمرت الدموع من مقلتي إيثار بغزارة بعد أن جاهدت لمنعها ولكنها لم تقوَ على ذلك، فقد كان الألم أشد منها وأعنف، فمسحت على وجهها بكفيها وهي تهتف بلهجة متحشرجة منكسرة:.

بس انا تعبت، عمري ما فرحت بجد من قلبي، مش طالبه حاجة غير الفرحة، في ناس كتير أوي فرحانين، اشمعنا أنا بيحصل معايا كده، ليه؟!
هزت السيدة رأسها نافية وهي تضغط على ساعدها ثم نطقت ومازالت البسمة مرتسمة على وجنتيها:
مش صح يابنتي، كل واحد عنده همومه اللي محدش يعرف عنها حاجة، وبعدين يابنتي في بلاء أشد من بلاء أحمدي ربنا وأرضي عشان يرضيكي!

أرادت تلك السيدة أن تدعم حديثها وتؤكده فقررت أن تفصح عن مصيبتها وبلائها العظيم، گدليل منها لإثبات المقولة التي تحمل معنى (( من رأى بلاء غيره تهون عليه بلواه ))، فقالت والحزن يخيم على صوتها:
أنا راح عيالي كلهم وحفيدي في يوم واحد!
شهقت إيثار بصوت مكتوم، وابتلعت ما تبقى من ريقها الذي جف بصعوبة، ثم تساءلت بإهتمام وقد سيطر على وجهها علامات الخوف:
آآ، أزاي؟

أجابتها السيدة وقد تعلق بصرها بالسماء التي كانت ملبدة بالغيوم والسحب:
حكمة ربنا كده وأنا راضية، ابني سافر عشان يقضي الأجازة مع أخته بره مصر، وقدر يقنعها تنزل مصر هي وابنها وجوزها في أجازة!
اختنق صوتها نوعاً ما وهي تتابع بأسف:
في اليوم ده الطيارة وقعت بيهم كلهم، وخسرت بنتي وابني وحفيدي اللي مشوفتوش!
شحب وجهها، وانخفضت نبرة صوتها لتصبح أكثر شجناً:.

راح مني كل اللي بحبهم في يوم واحد، ومقولتش غير الحمد لله رب العالمين، وهما أكيد في مكان أجمل من دنيتنا دي!
رغماً عنها بكت إيثار متأثرة، يا الله، كم عانت تلك السيدة من فراق أحبابها، من موت أخذ بغتة الأقرب إليها، وأنا هنا أبكي على حب مضى وانتهى؟
أشفقت على تلك العجوز التي تخفي خلف قناع بسمتها كثير من الآلم..

مسحت عبراتها بكفها، وشردت أمامها تفكر في مصيبة تلك السيدة، أي شيء يمكن أن يقارن بخسارة الأبناء والأحفاد؟ أي قدرة عظيمة جعلت تلك السيدة تتحمل فراقهم المؤسف بتلك الشجاعة العجيبة..
إنها تعاني من فاجعة أشد وأقوى من مصيبتها التي لا تذكر، توقف سيل عبراتها وأخذت تفكر بشكل آخر..
لقد اقتنعت بصدق المقولة وبدأت روحها تسكن رويداً رويداً، بينما تابعت السيدة بنبرتها الحنون الدافئة وهي تردد.

فهمتي يابنتي، مفيش حاجة تستاهل وكلنا ماشيين في يوم
حركت إيثار رأسها بتفهم وقد شعرت بالحنين لذلك الذي توارى أسفل التراب، أبيها الراحل، ذاك الذي قضت سنواتها الأخيرة بعيدة عنه تبغضه لفعلته في حقها، وهو لم يكن يسعى سوى لراحتها وسعادتها، حتى وإن كانت طريقته خاطئة..
تنهدت بعمق، وفجأة…
دوى صوت الرعد في المكان وظهرت الخيوط الضوئية البراقة ( البرق ) في السماء وبدأت السماء تهطل كماً غزيراً من الأمطار..

ارتجفت إيثار قليلاً، ورفعت وجهها للأعلى وهي تطبق على جفنيها لتترك العنان لتلك القطرات الباردة لتهديء من سخونة وجهها وتمسح بقايا الدموع عنها..
تناجت مع اللّه بقلبها ودعته أن يدخل السرور على تلك العجوز التي أزاحت ثقلاً عنها، ثم تمنت منه بتضرع أن يقر عينيها بفرحة تدمع لأجلها، فإنها بحاجة ماسة لها.

أخفضت رأسها لتنظر إلى جوارها فلم تجد السيدة، تلفتت حولها بخوف باحثة عنها فوجدتها قد شقت طريقها وانصرفت مبتعدة ولم يتبقَ منها إلا ظلها..
أطرقت رأسها، وتنهدت بإنهاك، ثم أكملت سيرها وهي تشعر براحة غريبة سكنت فؤادها الممزق، وقد يأتي الغد بما لا تعلمه…

ظل يجوب غرفته ذهاباً وإياباً يفكر في حل سريع ومرضي للوصول إليها ولكنه لم يتمكن، فقد عجز عن ذلك بسبب فرط خوفه وتوتره، بالطبع وكيف يصل لها وقد أغلقت هاتفها نهائياً، وامتنعت عن الظهور، ولم يعد هناك أي وسيلة متاحة للتواصل بينهما…
ألقى بجسده المنهك على الفراش ثم انحنى بجزعه للأمام ليستند بساعديه على ركبتيه..

ازدادت حمرة وجهه واحتقانه وهو يتذكر صدى عباراتها في أذنيه من جديد لقد خسرت جنينها الذي لم يولد وتم التعامل معها من قبل زوجها بشكل غير آدمي قضى على أنوثتها النقية…
زاد حنقه، وبرزت عيناه بغضب..
فرك وجهه بعصبية، وردد مع نفسه إن كان هو قد عانى قيراطاً فهي تحملت الأربع وعشرون قيراط بمفرده..
هي لم تكن معذبته وقاتلة فؤاده كما ظن، بل كان هو مشاركاً بدون وعي في الجريمة النكراء التي أُرتُكبت بحقها..

كم كان قاسياً متحجر الفؤاد، لم يشعر بآلمها، لم يفهم نظرات عينيها الحزينتين، لم يدرك إنكسارة روحها…
انقطع شروده فجأة عندما ولجت روان للحجرة وهي تحمل الصغيرة ريفان، فجاهد مالك لكي يخفي عنها ملامحه العابسة المكفهرة ولكنه لم يستطع فعل ذلك..
دنت منه لتجلس جواره ثم مسحت على ظهره بحنو وهو تردف متساءلة:
مالك! ليه عملت كده معاها؟
صمت ولم يعقب، فأكملت بشجاعة:
هي متستاهلش كده!

أخذ نفساً عميقاً، وحبسه في صدره المتألم، ثم زفره على مهل، والتفت نحوها ليسألها بإندهاش متعجب منها:
و، وانتي عرفتي أزاي؟
أجابته روان وهي تعض على شفتيها بضيق:
سألت راوية وقالتلي أنك طردتها..
نظرت له بعتاب كبير، وسألته بخفوت يحمل اللوم:
ليه يامالك؟ دي، دي إيثار!
نهض عن مكانه بشكل متشنج ثم هتف بلهجة منفعلة ليواري على فعلته:
هي اضطرتني لكده!
أولاها ظهره، وتابع بصوت محتد:.

وياريت نقفل على الموضوع ده ياروان، ده يخصني ومحبش حد يدخل فيه!
ردت عليه روان بتوتر وهي تنهض عن مكانها متمسكة بالصغيرة جيداً:
انا مقصدش أدخل، بس انت من ساعة مارجعت وانت متغير، دايماً عصبي وعلى طول بتزعق!
شهق بأنفاسه ثم زفرها بتمهل لكبح الشحنة المتأججة التي تستعر بداخله، ثم مسح بكفيه على وجهه وهو يهتف بنبرة خافتة مدعياً الهدوء:
مفيش حاجة بتفضل على حالها.

التفت إليها ثم رمق صغيرته بعطف معتاد منه عليها، وهتف بنبرة حزينة يغزوها الضيق:
خدي ريفان وأكليها، مش عايزها تحس بفرق!
ردت عليه روان وهي تهز وأسها بتفهم:
متقلقش، هي أكلت العشا بتاعها..!
تحركت مبتعدة، وأضافت بحذر:
انا هسيبك مع نفسك عشان عارفه انك محتاج تقعد معاها وتعيد حساباتك!
غادرت الحجرة لتتركه في تخبطه وذبذبة أفكاره ومشاعره، فأصبح الآلم لديه أضعاف مضاعفة..

تمنى لو لم يعرف بما حل بها، وليته لم يعد لتلك المدينة التي طالما جمعتهما سوياً..
والآن هي تشهد على تعذيبه لها..
تنهد بقلة حيلة ثم توجه لخزانة ملابسه بشكل غير ارادي..
وإذ بمقلتيه تقع على تلك الآلة الموسيقية من جديد…
آلة الكمان التي أهدته إياه زوجته الراحلة..
فأبتسم إبتسامة طفيفة سريعاً ما تلاشت ثم مد يده ليلتقطها..

أزاح عنها الغطاء الحافظ لها، ثم أسندها على كتفه، وبدأ في عزف لحنه الحزين المؤلم فلمس أوتار قلبه الملتاع وصميمه..
أغمضت عيناه ليستسلم لتلك النغمات الشجية، فلاح طيفها في مخيلته..
اتسع ثغره بإبتسامة باهتة، ولكنها اختفت بعد لحظات..

وعلى حين غرة فتح عيناه واتسعت حدقتيه وارتفع حاجبيه للأعلى، فقد خطر بمخيلته فكرة جديدة ربما تساعده على الوصول إليها، وعلى الفور تحرك عن مكانه وخرج يبحث عن شقيقته وهو ينادي عليها حتى لمحها تخرج من حجرة الصغيرة ريفان
فأقترب منها بحماسة ثم نطق بتلهف شديد:
حضري ريفان عشان نروح نزور عمتي
رددت روان بإستغراب وقد انعقد ما بين حاجبيها بذهول جلي:
دلوقتي! طب ليه؟
أجابها مالك بهدوء محاولاً عدم إظهار نيته لها:.

عشان أخر مرة مشيت انا وانتي بسرعة وأكيد زعلت، يالا بس بسرعة
أجابته روان وهي تحرك كتفيها بعدم فهم:
اللي يريحك
التوى ثغره بإبتسامة واثقة، ومسح على رأسه بهدوء، فربما ما فرقهما يوماً سيعيدهما إلى بعض من جديد…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى